فصل: ذكر ما فعله يوسف بن آبق ببغداد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر انهزام بركيارق من عمه تتش وملكه أصبهان بعد ذلك:

في هذه السنة، في شوال، انهزم بركيارق من عسكر عمه تتش. وكان بركيارق بنصيبين، فلما سمع بمسير عمه إلى أذربيجان، سار هو من نصيبين، وعبر دجلة من بلد فوق الموصل، وسار إلى إربل، ومنها إلى بلد سرخاب بن بدر إلى أن لقي بينه وبين عمه تسعة فراسخ، ولم يكن معه غير ألف رجل، وكان عمه في خمسين ألف رجل، فسار الأمير يعقوب بن آبق من عسكر عمه، فكبسه وهزمه، ونهب سواده، ولم يبق معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، واليارق، وهم من الأمراء الكبار، فسار إلى أصبهان.
وكانت خاتون أم أخيه محمود قد ماتت، على ما نذكره، فمنعه من بها من الدخول إليها، ثم أذنوا له خديعة منهم ليقبضوا عليه، فلما قاربها خرج أخوه الملك محمود فلقيه، ودخل البلد، واحتاطوا عليه، فاتفق أن أخاه محموداً حم وجدر، فأراد الأمراء أن يكحلوا بركيارق، فقال لهم أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب: إن الملك محموداً قد جدر، وما كأنه يسلم منه، وأراكم تكرهون أن يليكم، ويملك البلاد تاج الدولة، فلا تعجلوا على بركيارق، فإن مات محمود أقيموه ملكاً، وإن سلم محمود فأنتم تقدرون على كحله. فمات محمود سلخ شوال، فكان هذا من الفرج بعد الشدة، وجلس بركيارق للعزاء بأخيه.
وكان مولد محمود في صفر سنة ثمانين وأربعمائة. وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك، فاستوزره في ذي الحجة، وكان أخوه عز الملك بن نظام الملك قد مات لما كان مع بركيارق بالموصل، وحمل إلى بغداد، فدفن بالنظامية، وكان أصبح الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً وسيرة، وكان قد أجرى الناس على ما بأيديهم من توقيعات أبيه في الإطلاقات من خاصته، منها ببغداد مائتا كر غلة، وثمانية عشر ألف دينار أميري.
ثم إن بركيارق جدر، بعد أخيه، وعوفي وسلم، فلما عوفي كاتب مؤيد الملك وزيره الأمراء العراقيين، والخراسانيين، واستمالهم، فعادوا كلهم إلى بركيارق، فعظم شأنه وكثر عسكره.

.ذكر وفاة أمير الجيوش بمصر:

في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أمير الجيوش بدر الجمالي، صاحب الجيش بمصر، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان هو الحاكم في دولة المستنصر، والمرجوع إليه.
وكان قد استعمله على الشام سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وجرى بينه وبين الرعية والجند بدمشق ما خاف منه عى نفسه، فخرج عنها هارباً، وجمع وحشد، وقدم إلى الشام فاستولى عليه بأسره سنة ست وخمسين، ثم خالفه أهل دمشق مرة أخرى، فهرب منهم سنة ستين، وخرب العامة والجند قرص الإمارة، ثم مضى أمير الجيوش إلى مصر، وتقدم بها، وصار صاحب الأمر.
قال علقمة بن عبد الرزاق العليمي: قصدت بدراً الجمالي بمصر، فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه، قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه، قال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرج علقمة في أثره، وأقام إلى أن رجع من صيده، فلما قاربه وقف على نشز من الأرض، وأومأ برقعة في يده، وأنشأ يقول:
نحن التجا قنا، ** درٌ وجود يمينك المبتاع

قلب، وفتشها بسمعك إنما ** هي جوهر تختاره الأسماع

كسدت علينا بالشآم، وكلما ** قل النفاق تعطل الصناع

فأتاك يحملها إليك تجارها ** ومطيها الآمال والأطماع

حتى أناخوها ببابك، والرجا ** من دونك السمسار والبياع

فوهبت ما لم يعطه في دهره ** هرم، ولا كعب، ولا القعقاع

وسبقت هذا الناس في طلب العلى ** فالناس، بعدك كلهم أتباع

يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى، ** ولجوا إليك جميعهم، ما ضاعوا

وكان على يد بدر بازي فألقاه وانفرد عن الجيش، وجعل يسترد الأبيات وهو ينشدها إلى أن استقر في مجلسه، ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته: من أحبني فليخلع على هذا الشاعر، فخرج من عنده ومعه سبعون بغلاً، يحمل الخلع والتحف، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج من عنده وفرق كثيراً من ذلك على الشعراء، ولما مات بدر قام بما كان إليه ابنه الأفضل.

.ذكر وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعلي:

في هذه السنة، ثامن عشر ذي الحجة، توفي المستنصر بالله أبو تميم معد بن أبي الحسن علي الظاهر لإعزاز دين الله العلوي، صاحب مصر والشام، وكانت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر، وكان عمره سبعاً وستين سنة، وهو الذي خطب به البساسيري ببغداد، وقد ذكرنا ذلك.
وكان الحسن بن الصباح، رئيس هذه الطائفة الإسماعيلية، قد قصده في زي تاجر، واجتمع به وخاطبه في إقامة الدعوة له ببلاد العجم، فعاد ودعا الناس إليه سراً، ثم أظهرها، وملك القلاع، كما ذكرناه، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار، وهو أكبر أولاده، والإسماعيلية إلى يومنا هذا يقولون بإمامة نزار.
ولقي المستنصر شدائد وأهوالاً، وانفتقت عليه بديار مصر، أخرج فيها أمواله وذخائره إلى أن بقي لا يملك غير سجادته التي يجلس عليها، وهو مع هذا صابر خاشع، وقد أتينا على ذكر هذا سنة سبع وستين وأربعمائة وغيرها.
ولما مات ولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بالله، ومولده في المحرم سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد عهد في حياته بالخلافة لابنه نزار، فخلعه الأفضل وبايع المستعلي بالله.
وسبب خلعه أن الأفضل ركب مرة، أيام المستنصر، ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكباً، ونزار خارج، والمجاز مظلم، فلم يره الأفضل، فصاح به نزار: انزل، يا أرمني، كلب، عن الفرس، ما أقل أدبك! فحقدها عليه، فلما مات المستنصر خلعه خوفاً منه على نفسه، وبايع المستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية، وبها ناصر الدولة أفتكين، فبايعه أهل الإسكندرية وسموه المصطفى لدين الله، فخطب الناس، ولعن الأفضل، وأعانه أيضاً القاضي جلال الدولة بن عمار، قاضي الإسكندرية، فسار إليه الأفضل، وحاصره بالإسكندرية، فعاد عنه مقهوراً، ثم ازداد عسكراً، وسار إليه، فحصره وأخذه، وأخذ أفتكين فتقله، وتسلم المستعلي نزاراً فبنى عليه حائطاً فمات، وقتل القاضي جلال الدولة بن عمار ومن أعانه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، رأى بعض اليهود بالغرب رؤيا أنهم سيطيرون، فأخبر اليهود بذلك، فوهبوا أموالهم وذخائرهم، وجعلوا ينتظرون الطيران، فلم يطيروا، وصاروا ضحكة بين الأمم.
وفي هذا الشهر كانت بالشام زلازل كثيرة متتابعة يطول مكثها، إلا أنه لم يكن الهدم كثيراً.
وفيها كانت الفتنة بين أهل نهر طابق وأهل باب الأرجا، فاحترقت نهر طابق، وصارت تلولاً، فلما احترقت عبر يمن، صاحب الشرطة، فقتل رجلاً مستوراً، فنفر الناس منه، وعزل في اليوم الثالث.
وفيها توفي محمد بن أبي هاشم الحسيني، أمير مكة، وقد جاوز سبعين سنة، ولم يكن له ما يمدح به، وكان قد نهب بعض الحجاج سنة ست وثمانين وقتل منهم خلقاً كثيراً.
وفيها، في ربيع الأول، قتل السلطان بركيارق عمه تكش وغرقه، وقتل ولده معه، وكان ملكشاه قد أخذه، لما خرج عليه، وكحله، وحبسه بقلعة تكريت، فلما ملك بركيارق أحضره إليه ببغداد، وسار بمسيره، فظفر بملطفات إليه من أخيه تتش يحثه على اللحاق به، وقيل إنه أراد المسير إلى بلخ لأن أهلها كانوا يريدونه، فقتله، فلما غرق بقي بسر من رأى، فحمل إلى بغداد، فدفن عند قبر أبي حنيفة.
وفيها، في جمادى الآخرة، كانت وقعة بين الأمير أنر وتورانشاه، ابن قاورت بك، وكانت تركان خاتون الجلالية، والدة محمود بن ملكشاه، قد أرسلته في عسكر ليأخذ بلاد فارس من تورانشاه، ولم يحسن الأمير أنر تدبير بلاد فارس، فاستوحش منه الأجناد، واجتمعوا مع تورانشاه وهزموا أنر، ومات تورانشاه، بعد الكسرة بشهر، من سهم أصابه فيها.
وفيها استولى أصبهبذ بن ساوتكين على مكة، حرسها الله، عنوة، وهرب منها الأمير قاسم بن أبي هاشم العلوي صاحبها، وأقام بها إلى شوال، وجمع الأمير قاسم وكبسه بعسفان، وجرى بينهما حرب في شوال من هذه السنة، فانهزم أصبهبذ، ودخل قاسم إلى مكة، ومضى أصبهبذ إلى الشام وقدم إلى بغداد.
وفيها، في رجب، أحرق شحنة بغداد، وهو أيتكين، جب باب البصرة، وسبب ذلك أن النقيب طراداً الزينبي كان له كاتب يعرف بابن سنان، فقتل، فأنفذ النقيب إلى الشحنة يستدعي منه من يقيم السياسة، فأنفذ حاجبه محمداً، فرجمه أهل باب البصرة، وأدموه، فرجع إلى صاحبه فشكا إليه منهم، فأمر أخاه بقصدهم ومعاقبتهم على فعلهم، فسار إليهم في جماعة كثيرة، وتبعهم أهل الكرخ، فأحرقوا ونهبوا، فأرسل الخليفة إلى الشحنة يأمره بالكف عنهم فكف.
وفيها، في رمضان، توفيت تركان خاتون الجلالية بأصبهان، وهي ابنة طفغاج خان، وهو من نسل افراسياب التركي، وكانت قد برزت من أصبهان لتسير إلى تاج الدولة تتش لتتصل به، فمرضت وعادت وماتت، وأوصت إلى الأمير أنر وإلى الأمير سرمز شحنة أصبهان بحفظ المملكة على ابنها محمود، ولم يكن بقي بيداها سوى قصبة أصبهان، ومعها عشرة آلاف فارس أتراك.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الحسين بن الموصلايا، كاتب ديوان الزمام ببغداد. ثم دخلت:

.سنة ثمان وثمانين وأربعمائة:

.ذكر دخول جمع من الترك إفريقية وما كان منهم:

في هذه السنة غدر شاهملك التركي بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبض عليه.
وكان شاهملك هذا من أولاد بعض الأمراء الأتراك ببلاد الشرق، فناله في بلده أمر اقتضى خروجه منه، فسار إلى مصر في مائة فارس، فأكرمه الأفضل أمير الجيوش، وأعطاه إقطاعاً ومالاً، ثم بلغه عنه أسباب أوجبت إخراجه من مصر، فخرج هو وأصحابه هاربين، فاحتالوا حتى أخذوا سلاحاً وخيلاً وتوجهوا إلى المغرب، فوصلوا إلى طرابلس الغرب، وأهل البلد كارهون لواليها، فأدخلوهم البلد، وأخرجوا الوالي، وصار شاهملك أمير البلد.
فسمع تميم الخبر، فأرسل العساكر إليها، فحصروها، وضيقوا على الترك ففتحوها، ووصل شاهملك معهم إلى المهدية، فسر به تميم وبمن معه، قال: ولد لي مائة ولد أنتفع بهم، وكانوا لا يخطيء لهم سهم.
فلم تطل الأيام حتى جرى منهم أمر غير تميماً عليهم، فعلم شاهملك ذلك، وكان داهياً، خبيثاً، فخرج يحيى بن تميم إلى الصيد في جماعة من أعيان أصحابه نحو مائة فارس، ومعه شاهملك، وكان أبوه تميم قد تقدم إليه أن لا يقرب شاهملك، فلم يقبل. فلما أبعدوا في طلب الصيد غدر به شاهملك فقبض عليه، وسار به وبمن أخذ معه من أصحابه إلى مدينة سفاقس.
وبلغ الخبر تميماً، فركب، وسير العساكر في أثرهم، فلم يدركوهم، ووصل شاهملك بيحيى بن تميم إلى سفاقس، فركب صاحبها، واسمه حمو، وكان قد خالف على تميم، ولقي يحيى، ومشى في ركابه راجلاً، وقبل يده وعظمه، واعترف له بالعبودية، فأقام عنده أياماً، ولم يذكره أبوه بكلمة، وكان قد جعله ولي عهده، فلما أخذ أقام أبوه مقامه ابناً له آخر اسمه المثنى.
ثم إن صاحب سفاقس خاف يحيى على نفسه أن يثور معه الجند وأهل البلد ويملكوه عليهم، فأرسل إلى تميم كتاباً يسأله في إنفاذ الأتراك وأولادهم إليه ليرسل ابنه يحيى، ففعل ذلك بعد امتناع، وقدم يحيى، فحجبه أبوه عنه مدة، ثم أعاده إلى حاله، ورضي عنه، ثم جهز تميم عسكراً إلى سفاقس، ويحيى معهم، فساروا إليها وحصروها براً وبحراً، وضيقوا على الأتراك بها، وأقاموا عليها شهرين، واستولوا عليها، وفارقها الأتراك إلى قابس.
وكان تميم لما رضي عن ابنه يحيى عظم ذلك على ابنه الآخر المثنى، وداخله الحسد، فلم يملك نفسه، فنقل عنه إلى أبيه ما غير قلبه عليه، فأمر بإخراجه من المهدية بأهله وأصحابه، فركب البحر ومضى إلى سفاقس، فلم يمكنه عامله من الدخول إليها، وقصد مدينة قابس، وبها أمير يقال له مكين بن كامل الدهسماني، فأنزله وأكرمه، فحسن له المثنى الخروج معه إلى سفاقس والمهدية، وأطمعه فيهما، وضمن الإنفاق على الجند من ماله، فجمع مكين من يمكنه جمعه، وسار إلى سفاقس، ومعهما شاهملك التركي وأصحابه، فنزلوا على سفاقس وقاتلوها.
وسمع تميم، فجرد إليها جنداً، فلما علم المثنى ومن معه أنهم لا طاقة لهم بها ساروا عنها إلى المهدية، فنزلوا عليها وقاتلوها، وكان الذي يتولى القتال في المهدية يحيى بن تميم، وظهرت منه شهامة، وشجاعة، وحزم، وحسن تدبير، فلم يبلغ أولئك منها غرضاً، فعادوا خائبين، وقد تلف ما كان مع المثنى من مال وغيره، وعظم أمر يحيى، وصار وهو المشار إليه.

.ذكر قتل أحمد خان صاحب سمرقند:

في هذه السنة، في المحرم، قتل أحمد خان، صاحب سمرقند، وكان قد كرهه عسكره واتهموه بفساد الاعتقاد، وقالوا: هو زنديق.
وكان سبب ذلك أن السلطان ملكشاه، لما فتح سمرقند وأسر أحمد خان هذا، قد وكل به جماعة من الديلم، فحسنوا له معتقدهم، وأخرجوه إلى الإباحة، فلما عاد إلى سمرقند كان يظهر منه أشياء تدل على انحلاله من الدين، فلما كرهه أصحابه، وعزموا على قتله، قالوا لمستحفظ قلعة كاسان، وهو طغرل ينال بك، ليظهر العصيان ليسير أحمد خان معهم من سمرقند إلى قتاله، فيتمكنوا من قتله، فعصى طغرل ينال بك، فسار أحمد خان والعسكر إلى قتاله، فلما نازل القلعة تمكن العسكر منه، وقبضوا عليه، وعادوا إلى سمرقند، وأحضروا القضاة والفقهاء، وأقاموا خصوصاً ادعوا عليه الزندقة، فجحد، فشهد عليه جماعة بذلك، فأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه، وأجلسوا ابن عمه مسعوداً مكانه وأطاعوه.

.ذكر ما فعله يوسف بن آبق ببغداد:

في هذه السنة، في صفر، سير الملك تتش يوسف بن آبق التركماني شحنة لبغداد، ومعه جمع من التركمان، فمنع من دخول بغداد، وورد إليه صدقة بن مزيد صاحب الحلة وكان يكره تتش، ولم يخطب له في بلاده، فلما سمع ابن آبق بوصوله عاد إلى طريق خراسان ونهب باجسرا، وقاتله العسكر ببعقوبا، فهزمهم ونهبهم أفحش نهب وأكثر معه من التركمان وعاد إلى بغداد.
وكان صدقة قد رجع إلى الحلة، فدخل يوسف بن آبق إلى بغداد، وأراد نهبها والإيقاع بأهلها، فمنعه أمير كان معه من ذلك، ثم وصل إليه الخبر بقتل تتش، فرحل عن بغداد إلى الموصل، وسار من هناك إلى حلب.

.ذكر الحرب بين بركيارق وتتش وقتل تتش:

في هذه السنة، في صفر، قتل تتش بن ألب أرسلان.
وكان سبب ذلك أنه لما هزم السلطان بركيارق، كما ذكرناه، سار من موضع الوقعة إلى همذان، وقد تحصن بها أمير آخر، فرحل تتش عنها، فتبعه أمير آخر لأجل أثقاله، فعاد عليه تتش فكسره، فعاد إلى همذان، واستأمن إليه، وصار معه.
وبلغ تتش مرض بركيارق، فسار إلى أصبهان، فاستأذنه أمير آخر في قصد جرباذقان لإقامة الضيافة وما يحتاج إليه، فأذن له، فسار إليها، ومنها إلى أصبهان، وعرفهم خبر تتش.
وعلم تتش خبره، فنهب جرباذقان، وسار إلى الري، وراسل الأمراء الذين بأصبهان يدعوهم إلى طاعته، ويبذل لهم البذول الكثيرة، وكان بركيارق مريضاً بالجدري، فأجابوه يعدونه بالانحياز إليه، وهم ينتظرون ما يكون من بركيارق. فلما عوفي أرسلوا إلى تتش: ليس بيننا غير السيف، وساروا مع بركيارق من أصبهان، وهم في نفر يسير، فلما بلغوا جرباذقان أقبلت إليهم العساكر من كل مكان، حتى صاروا في ثلاثين ألفاً، فالتقوا بموضع قريب من الري، فانهزم عسكر تتش وثبت هو، فقتل، قيل قتله بعض أصحاب آقسنقر، صاحب حلب، أخذاً بثأر صاحبه.
وكان قد قبض على فخر الملك بن نظام الملك، وهو معه، فأطلق، واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، بالأمس ينهزم من عمه تتش، ويصل إلى أصبهان في نفر يسير، فلا يتبعه أحد، ولو تبعه عشرون فارساً لأخذوه لأنه بقي على باب أصبهان عدة أيام، ثم لما دخلها أراد الأمراء كحله، فاتفق أن أخاه حم ثاني يوم وصوله، وجدر، فمات، فقام في الملك مقامه، ثم جدر هو وأصابه مع سرسام، فعوفي، وبقي مذ كسره عمه إلى أن عوفي وسار عن أصبهان أربعة أشهر لم يتحرك عمه، ولا عمل شيئاً، ولو قصده وهو مريض أو وقت مرض أخيه لملك البلاد:
ولله سر في علاك، وإنما ** كلام العدى ضربٌ من الهذيان

.ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهما:

اكن تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابن الملك رضوان، وكتب إليه من بلد الجبل، قبل المصاف الذي قتل فيه، يأمره أن يسير إلى العراق، ويقيم بدار المملكة، فسار في عدد كثير منهم: إيلغازي بن أرتق، وكان قد سار إلى تتش، فتركه عند ابنه رضوان، ومنهم: الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس، وغيرهما، فلما قارب هيت بلغه قتل أبيه، فعاد إلى حلب، ومعه والدته، فملكها، وكان بها أبو القاسم الحسن بن علي الخوارزمي، قد سلمها إليه تتش وحكمه في البلد والقلعة.
ولحق رضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين بن أيتكين، وكان مع تتش، فسلم من المعركة، وكان مع رضوان أيضاً أخواه الصغيران: أبو طالب وبهرام، وكانوا كلهم مع أبي القاسم كالأضياف لتحكمه في البلد، واستمال جناح الدولة المغاربة، وكانوا أكثر جند القلعة، فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان، واحتاطوا على أبي القاسم، وأرسل إليه رضوان يطيب قلبه، فاعتذر، فبل عذره، وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها، ولم يكن يخطب له بل كانت الخطبة لأبيه، بعد قتله، نحو شهرين.
وسار جناح الدولة في تدبير المملكة سيرة حسنة، وخالف عليهم الأمير باغي بن سيان بن محمد بن ألب التركماني، صاحب أنطاكية، ثم صالحهم، وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر، لخلوها من وال يحفظها، فساروا جميعاً، وقدم عليهم أمراء الأطراف الذين كان تتش رتبهم فيها، وقصدوا سروج فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق جد أصحاب الحصن اليوم، وأخذها، ومنعهم عنها، وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا إليه من عساكره وما يفسدون من غلاتهم، ويسألونه الرحيل، فرحل عنهم إلى الرها.
وكان بها رجل من الروم يقال له الفارقليط، وكان يضمن البلد من بوزان، فقاتل المسلمين بمن معه، واحتمى بالقلعة، وشاهدوا من شجاعته ما لم يكونوا يظنونه، ثم ملكها رضوان، وطلب باغي سيان القلعة من رضوان، فوهبها له، فتسلمها وحصنها، ورتب رجالها، وأرسل إليهم أهل حران يطلبونهم ليسلموا إليهم حران، فسمع ذلك قراجة أميرها، فاتهم ابن المفتي، وكان ابن المفتي هذا قد اعتمد عليه تتش في حفظ البلد، فأخذه، وأخذ معه بني أخيه، فصلبهم.
ووصل الخبر إلى رضوان، وقد اختلف جناح الدولة وباغي سيان، وأضمر كل واحد منهما الغدر بصاحبه، فهرب جناح الدولة إلى حلب، فدخلها، واجتمع بزوجته أم الملك رضوان، وسار رضوان وباغي سيان، فعبرا الفرات إلى حلب، فسمعا بدخول جناح الدولة إليها، ففارق باغي سيان الملك رضوان، وسار إلى أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، وسار رضوان إلى حلب.
وأما دقاق بن تتش فإنه كان سيره أبوه إلى عمه السلطان ملكشاه ببغداد، وخطب له ابنة السلطان، وسار بعد وفاة السلطان مع خاتون الجلالية وابنها محمود إلى أصبهان، وخرج إلى السلطان بركيارق سراً، وصار معه، ثم لحق بأبيه، وحضر معه الوقعة التي قتل فيها.
فلما قتل أبوه أخذه غلام لأبيه اسمه أيتكين الحلبي، وسار به إلى حلب، وأقام عند أخيه الملك رضوان، فراسله الأمير ساوتكين الخادم الوالي بقلعة دمشق سراً، يدعوه ليملكه دمشق، فهرب من حلب سراً، وجد في السير، فأرسل أخوه رضوان عدة من الخيالة، فلم يدركوه، فلما وصل إلى دمشق فرح به الخادم، وأظهر الاستبشار، ولقيه، فلما دخلها أرسل إليه باغي سيان يشير عليه بالتفرد بملك دمشق عن أخيه رضوان.
واتفق وصول معتمد الدولة طغدكين إلى دمشق، ومعه جماعة من خواص تتش وعسكره، وقد سلموا، فإنه كان قد شهد الحرب مع صاحبه، وأسر، فبقي إلى الآن، وخلص من الأسر، فلما وصل إلى دمشق لقيه الملك دقاق وأرباب دولته، وبالغوا في إكرامه، وكان زوج والدة دقاق فمال إليه لذلك، وحكمه في بلاده، وعملوا على قتل الخادم ساوتكين، فقتلوه، وسار إليهم باغي سيان من أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، فجعله وزيراً لدقاق، وحكمه في دولته.

.ذكر وفاة المعتمد بن عباد:

في هذه السنة توفي المعتمد بن عباد، الذي كان صاحب الأندلس، مسجوناً بأغمات، من بلد المغرب، وقد ذكرنا كيف أخذت بلاده منه سنة أربع وثمانين وأربعمائة، فبقي مسجوناً إلى الآن، وتوفي، وكان من محاسن الدنيا كرماً، وعلماً، وشجاعة، ورئاسة تامة، وأخباره مشهورة، وآثاره مدونة.
وله أشعار حسنة، فمنها ما قاله لما أخذ ملكه وحبس:
سلت علي يد الخطوب سيوفها ** فجذذن من جسدي الحصيف الأمتنا

ضربت بها أيدي الخطوب، وإنما ** ضربت رقاب الآملين بها المنى

يا آملي العادات من نفحاتنا، ** كفوا، فإن الدهر كف أكفنا

وله قصيدة يصف القيد في رجله:
تعطف في ساقي تعطف أرقم، ** يساورها عضاً بأنياب ضيغم

وإني من كان الرجال بسيبه، ** ومن سيفه في جنة وجهنم

وقال في يوم عيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا، ** فساءك العيد في أغمات، مأسورا

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً، ** فردك الدهر منهياً، ومأمورا

من بات بعدك في ملك يسر به، ** فإنما بات بالأحلام مسرورا

وكان شاعره أبو بكر بن اللبانة يأتيه وهو مسجون، فيمدحه لا لجدوى ينالها منه، بل رعاية لحقه وإحسانه القديم إليه. فلما توفي أتاه، فوقف على قبره، يوم عيد، والناس عند قبور أهليهم، وأنشد بصوت عال:
ملك الملوك أسامع فأنادي، ** أم قد عداك عن الجواب عوادي

لما خلت منك القصور، ولم تكن ** فيها، كما قد كنت في الأعياد

فمثلت في هذا الثرى لك خاضعاً ** وتخذت قبرك موضع الإنشاد

وأخذ في إتمام القصيدة، فاجتمع الناس كلهم عليه يبكون. ولو أخذنا في تفصيل مناقبه ومحاسنه لطال الأمر، فلنقف عند هذا.